سورة يوسف - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


ولما كان المعنى- كما تقدم: فجعل إليه خزائن الأرض، فجاءت السنون المخصبة، فدبرها بما علمه الله، ثم جاءت السنون المجدبة فأجدبت جميع أرض مصر وما والاها من بلاد الشام وغيرها، فأخرج ما كان ادخره من غلال سبع سنين بالتدريج أولاً فأولاً- كما حد له {العليم الحكيم} فتسامع به الناس فجاؤوا للامتيار منه من كل أوب {وجاء إخوة يوسف} العشرة لذلك، وحلف أبوهم بنيامين أخا يوسف عليه السلام لأمه عنده، ودل على تسهيله إذنهم بالفاء فقال: {فدخلوا عليه} أي لأنه كان يباشر الأمور بنفسه كما هو فعل الكفاة الحزمة، لا يثق فيه بغيره {فعرفهم} لأنه كان مرتقباً لحضورهم لعلمه بجدب بلادهم وعقد همته بهم. مع كونه يعرف هيئاتهم في لباسهم وغيره، ولم يتغير عليه كبير من حالهم. لمفارقته إياهم رجالاً {وهم له منكرون} ثابت إنكارهم عريق فيهم وصفهم به، لعدم خطوره ببالهم لطول العهد، مع ما تغير عليهم من هيئته بالسن وانضاف إليه من الحشم والخدم واللباس وهيئة البلد وهيبة الملك وعز السلطان، وغير ذلك مما ينكر معه المعروف، ويستوحش لأجله من المألوف، وفق ما قال تعالى: {لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} [يوسف: 15] والدخول: الانتقال إلى محيط، والمعرفة: تبين الشيء بالقلب بما لو شوهد لفرق بينه وبين غيره مما ليس على خاص صفته.
ولما كان المعنى في قوة أن يقال: فطلبوا منه الميرة فباعهم بعد أن استخبرهم عن أمرهم، وقال لهم: لعلكم جواسيس؟ وسألهم عن جميع حالهم. فأخبروه بأبيهم وأخيهم منه، ليعلم صلاحهم ولا يظن أنهم جواسيس، عطف عليه قوله: {ولما جهزهم} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {بجهازهم} الذي جاؤوا له وقد أحسن إليهم؛ والجهاز: فاخر المتاع الذي يحمل من بلد إلى بلد {قال} أي لهم {ائتوني} أيها العصابة {بأخ لكم} كائن {من أبيكم} يأتي برسالة من أبيكم الرجل الصالح حتى أصدقكم، أو أنهم طلبوا منه لأخيهم حملاً، فأظهر أنه لم يصدقهم، وطلب إحضاره ليعطيه، فإنه كان يوزع الطعام على قدر الكفاية؛ ثم رغبهم بإطماعهم في مثل ما فعل بهم من الإحسان، وكان قد أحسن نزلهم، فقال مقرراً لهم بما رأوا منه: {ألا ترون} أي تعلمون علماً هو كالرؤية {أني أوفي الكيل} أي أتمه دائماً على ما يوجبه الحق {وأنا خير المنزلين} أضع الشيء في أولى منازله.
ولما رغبهم، رهبهم فقال: {فإن لم تأتوني به} أي بأخيكم أول قدمة تقدمونها {فلا كيل لكم} وعرفهم أنه لا يمنعهم من غيره فقال: {عندي ولا تقربون} ومع ذلك فلم يخطر ببالهم أنه يوسف، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قالوا سنراود} أي بوعد لا خلف فيه حين نصل {عن أباه} أي نكلمه فيه وننازعه الكلام ونحتال عليه فيه، ونتلطف في ذلك، ولا ندع جهداً؛ ثم أكدوا ذلك- بعد الجملة الفعلية المصدرة بالسين- بالجملة الاسمية المؤكدة بحرفي التأكيد، فقالوا: {وإنا لفاعلون} أي ما أمرتنا به والتزامناه، وقد مضى عند {وراودته} أن المادة- يائية وواوية بهمز وبغير همز- تدور على الدوران، ومن لوازمه القصد والإقبال والإدبار والرفق والمهلة، وقد مضى بيان غير المهموز، وأما المهموز فمنه درأه، أي دفعه- لأن المدفوع يرد إلى الموضع الذي أتى منه، والمدارأة: المدافعة والمنازعة مطلقاً، أي سواء كانت برفق أو بعنف، ثم كثرت فقصرت على الملاينة، ويلزم من الدفع حلول المدفوع في موضع لا يريده بغتة، ومنه: درأ علينا، أي خرج مفاجأة، قال القزاز: وأصله من قولهم: جاء السيل درأ، أي يدرأ بعضه بعضاً، وهو الذي يأتي من مكان لا يعلم به، واندرأ فلان علينا بالشر- إذا أتى به من حيث لم ندر، والدرء: النشوز، وهو من الدفع، وكوكب دريء: متوقد متلألئ- كان نوره يدفع بعضه بعضاً، ومنه درأت النار: أضاءت، واندرأ الحريق: انتشر، ودرأ الشيء: بسطه- لأن المبسوط لا يخلو عن دفع، وتدارؤوا: تدافعوا في الخصومة.
ودرأ البعير: أغد، ومع الغدة ورم في ظهره، وناقة دارئ: مغدة، وذلك لأن الغدة ملزومة للدفع، لا تنفك عنه بالقتب والركب وغيرهما، وكل ناتئ في الجسد هذا شأنه، ومنه الدرء: لقطعة من الجبل مشرقة، وناقة مدرئ: أنزلت اللبن وأرخت ضرعها عند النتاج- كأنها دفعتهما، وادرأت الصيد- على افتعلت: اتخذت له دريئة، وقد تقدمت الدرية في الواوي، ومنه: ادرأت فلاناً- ذا اعتمدته، والدرء: الميل والعوج- لأنه أهل لأن يدفع ليقوم، وطريق ذو دروء، أي كور وأخاقيق أي شقوق- فكأنها تدفع صاحبها عن القصد، وتدرؤوا عليهم: تطاولوا- لأن ذلك لا يخلو عن مدافعة كالنشوز، ويلزم الدفع القوة، ومنه رجل ذو تدرا، أي منعه وقوة، ورادته بكذا- بتقديم الراء: جعلته قوة له وعماداً يدافع عنه، والردء: العون والمادة والعدل الثقيل- لأنه يدافع ليعتدل، وردأ الحائط: دعمه، وردأه بحجر: رماه به، لأنه إذا أصابه دفعه، والإبل: أحسن القيام عليها، لأن ذلك لا يكون إلا بمدافعة، وأردأ الستر: أرخاه، بدفعه له من المكان الذي كان به، وأردأ الولد: سكنه وأنسه، فدفع الهم عنه، وأردأ الشيء: أقره- كأنه لسلب الدفع، وكذا أردأه أي أفسده، إما بأنه لم يدافعه بإحسان القيام عليه فأفسده، أو أنه زاد في الدفع حتى فسد، ومن ذلك أردأ- إذا فعل رديئاً، أي فعلا فاسداً ليس بجيد، وكأن من ذلك الأدرة- بالضم ساكنة وتحرك- وهي عظم الخصيتين في الناس والخيل؛ ومن التدافع: ترأدت الحية: اهتزت في انسيابها ورفعت رأسها، والريح: اضطربت- فكأن بعضها يدفع بعضاً، ومنه رأد الضحى: ارتفاعه، وترأد الضحى: ارتفع، وكذلك الجارية الرأدة والرؤد- بالضم، أي الناعمة، وقال القزاز: السريعة الشباب مع حسن غذاء، وقال ابن دريد: جارية رأدة- غير مهموز: كثيرة المجيء والذهاب، فإذا قلت: جارية رؤدة فهي الناعمة.
فإذا فسرت بالذهاب والمجيء فهو من الدوران الذي هو المدار، وإذا فسرت بالناعمة فهو من الاضطراب اللازم له، وغصن رؤد- بالضم: رطب- من ذلك، قال القزاز: وأحسب الجارية الناعمة إنما سميت رؤداً من هذا، وترأد: اهتز نعمة، وزيد: قام فأخذته رعدة، والغصن: تفيأ، والعنق: التوى- كله من الدوران وما يلزمه من الاضطراب، ورئد الإنسان: صديقه، لأنه يراوده ويداوره، والرأدة: أصل اللحى، وهو أصول منبت الأسنان، وهو العظم الذي يدور فيه طرفا اللحيين مما يلي الصدغين؛ ومن الرفق والمهلة: الرؤدة- بالضم، وهي التؤدة.
ولما أعلمنا سبحانه أنه رغبهم في شأن أخيه، ورهبهم بالقول، أعلمنا بأنه رغبهم فيه بالفعل، فقال عاطفاً على قوله الماضي لهم: {وقال} أي يوسف عليه الصلاة والسلام شفقة على إخوته وإرادة لنصحهم فيما سألهم فيه: {لفتيانه} أي غلمانه، وأصل الفتى: الشاب القوي، وسيأتي شرحه عند قوله تعالى: {تفتؤا تذكر يوسف} {اجعلوا بضاعتهم} أي ما بضعوه أي قطعوه من مالهم للتجارة وأخذناه منهم ثمناً لطعامهم الذي دفعناه لهم {في رحالهم} أي عدولهم؛ والرحل: ما أعد للرحيل من وعاء أو مركب {لعلهم يعرفونها} أي بضاعتهم؛ وعبر بأداة التحقق تفاؤلاً لهم بالسلامة، أو ظناً، أو علماً بالوحي، فقال: {إذا انقلبوا} راجعين {إلى أهلهم} أي يعرفون أنها هي بعينها، رددتها عليهم إحساناً إليهم، ويجزمون بذلك، ولا يظنون أن الله أخلف عليهم مثلها نظراً إلى حالهم وكرامة لأبيهم، ويعرفون هذه النعمة لي {ولعلهم يرجعون} أي ليكون حالهم وحال من يرجع إلينا إذا عرفوها، لردها تورعاً، أو للميرة بها إن لم يكن عندهم غيرها، أو طمعاً في مثل هذا، وإنما لم يبادر إلى تعريفهم بنفسه والتعجيل بإدخال السرور على أبيه، لأن ذلك غير ممكن عادة- لما يأتي من الحكم البالغة والتدبير المتين، ودل على إسراعهم في الرجوع بالفاء فقال: {فلما رجعوا} أي إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام {إلى أبيهم} حملهم ما رأوا- من إحسان الصديق وحاجتهم إليه وتبرئتهم لأنفسهم عن أن يكونوا جواسيس- على أن {قالوا ياأبانا}.
ولما كان المضار لهم مطلق المنع، بنوا للمفعول قولهم: {منع منا الكيل} لأخينا بنيامين على بعيره لغيبته، ولنا كلنا بعد هذه المرة إن لم نذهب به معنا ليظهر صدقنا؛ والمنع: إيجاد ما يتعذر به على القادر الفعل.
وضده: التسليط، وأما العجز فضده القدرة {فأرسل} أي بسبب إزالة هذا المنع {معنا أخانا} إنك إن ترسله معنا {نكتل} أي لنفسه كما يكتال كل واحد منا لنفسه- هذا على قراءة حمزة والكسائي بالتحانية، ولنؤوله على قراءة الجماعة بالنون- من الميرة ما وظفه العزيز، وهو لكل واحد حمل، وأكدوا لما تقدم من فعلهم بيوسف عليه الصلاة والسلام مما يوجب الارتياب بهم، فقالوا: {وإنا له} أي خاصة {لحافظون} أي عن أن يناله مكروه حتى نرده إليك، عريقون في هذا الوصف، فكأنه قيل: ما فعل في هذا بعد ما فعلوا إذ أرسل معهم يوسف عليه الصلاة والسلام؟ قيل: عزم على إرساله معهم، ولكنه أظهر اللجاء إلى الله تعالى في أمره غير قانع بوعدهم المؤكد في حفظه، لما سبق منهم من مثله في يوسف عليه الصلاة والسلام بأن {قال هل آمنكم} أي أقبل منكم الآن وفي مستقبل الزمان تأمينكم لي فيه مما يسوءني تأميناً مستعلياً {عليه} أي بنيامين {إلا كما آمنتكم} أي في الماضي {على أخيه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام.
ولما كان لم يطلع يوسف عليه الصلاة والسلام على خيانة قبل ما فعلوا به، وكان ائتمانه لهم عليه إنما هو زمان يسير، أثبت الجار فقال: {من قبل} فإنكم أكدتم غاية التأكيد فلم تحفظوه لي ولم تردوه إليّ- والأمن: اطمئنان القلب إلى سلامة النفس- فأنا في هذا لا آمن عليه إلا الله {فالله} أي المحيط علماً وقدرة {خير حافظاً} منكم ومن كل أحد {وهو} أي باطناً وظاهراً {أرحم الراحمين} فهو أرحم بي من أن يفجعني به بعد مصيبتي بأخيه؛ فأرادوا تفريغ ما قدموا به من الميرة {ولما فتحوا} أي أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام {متاعهم} أي أوعيتهم التي حملوها من مصر {وجدوا بضاعتهم} أي ما كان معهم من كنعان بشراء القوت.
ولما كان المفرح مطلق الرد. بنى للمفعول قوله: {ردت إليهم} والوجدان: ظهور الشيء للنفس بحاسة أو ما يغني عنها، فكأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: {قالوا} أي لأبيهم {ياأبانا ما} أي أي شيء {نبغي} أي نريد، فكأنه قال لهم: ما الخبر؟ فقالوا بياناً لذلك وتأكيداً للسؤال في استصحاب أخيهم: {هذه بضاعتنا} ثم بينوا مضمون الإشارة بقولهم: {ردت إلينا} هل فوق هذا من إكرام.
ولما كان التقدير: فنرجع بها إليه بأخينا، فيظهر له نصحنا وصدقنا، بنى عليه قوله: {ونمير أهلنا} أي نجلب إليهم الميرة برجوعنا إليه؛ والميرة: الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد {ونحفظ أخانا} فلا يصيبه شيء مما يخشى عليه، تأكيداً للوعد بحفظه وبياناً لعدم ضرر في سفره، ويدل على ما في التوراة- من أنه كان سجن أحدهم ليأتوا بأخيهم الأصغر- قوله: {ونزداد كيل بعير} أي فيكون جملة ما نأتي به بعد الرجوع إليه اثني عشر حملاً، لكل منا حمل، وللمسجون حملان- لكرّته الأولى والثانية، وذلك أنه كان لا يعطي إلا حملاً لكل رأس، فكأنه ما أعطاهم لما جهزهم غير تسعة أحمال، فكأنه قيل: وهل يجيبكم إلى ذلك في هذه الأزمة؟ فقالوا: نعم، لأن {ذلك كيل يسير} بالنسبة إلى ما رأينا من كرم شمائله وضخامه ملكه وفخامة همته، فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل: {قال} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام {لن أرسله} أي بنيامين كائناً {معكم} أي في وقت من الأوقات {حتى تؤتون} من الإيتاء وهو الإعطاء، أي إيصال الشيء إلى الأخذ {موثقاً} وهو العقد المؤكد.
ولما كان مراده موثقاً ربانياً، وكان الموثق الرباني- وهو ما كان بأسمائه تعالى لكونه أذن سبحانه فيه وأمر بالوثوق به- كأنه منه، قال: {من الله} أي الملك الأعظم بأيمان عظيمة: والله {لتأتنَّني} كلكم {به} من الإيتان، وهو المجيء في كل حال {إلا} في حال {أي يحاط} أي تحصل الإحاطة بمصيبة من المصائب، لا طاقة لكم بها {بكم} فتهلكوا من عند آخركم، كل ذلك زيادة في التوثيق، لما حصل له من المصيبة بيوسف عليه الصلاة والسلام وإن كان الاعتماد في حفظه إنما هو على الله، وهذا من باب: اعقلها وتوكل فأجابوه إلى جميع ما سأل {فلما آتوه} أي أعطاه بنوه {موثقهم قال الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {على ما نقول وكيل} هو القادر على الوفاء به المرجو للتصرف فيه بالغبطة، لا أنتم.


ولما سمح لهم بخروجه معهم، أتبع تعالى ذلك الخبر عن أمره لهم بالاحتياط من المصائب لأنهم أحد عشر رجلاً إخوة أهل جمال وبسطة، وكانوا قد شهروا عند المصريين بعض الشهرة، بسبب ما دار بينهم وبين يوسف عليه الصلاة والسلام من الكلام في المرة الأولى، فكانوا مظنة لأن ترمقهم الأبصار ويشار إليهم بالأصابع، فيصابوا بالعين، ولم يوصهم في المرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين، مع شغل الناس بما هم فيه من القحط، فقال حكاية عنه: {وقال} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه عندما أرادوا السفر: {يابني} محذراً لهم من شر الحسد والعين- {لا تدخلوا} إذا قدمتم إلى مصر {من باب واحد} من أبوابها؛ والواحد على الإطلاق: الذي لا ينقسم، وأما المقيد بإجرائه على موصوف كباب واحد، فهو ما لا ينقسم في معنى ذلك الموصوف {وادخلوا من أبواب} واحترز من أن تكون متلاصقة أو متقاربة جداً، فقال: {متفرقة} أي تفرقاً كبيراً، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا بالعين- كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة والضحاك والسدي، فإن العين حق، وهي من قدر الله، وقد ورد شرعنا بذلك، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق» وفي رواية عند أحمد وابن ماجه: «يحضرها الشيطان وحسد بن آدم» ولمسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق، ولو شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» ولأبي نعيم في الحلية عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال: «إن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر» ولأبي داود عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإنما لتدرك الفارس فتدعثره» ولأحمد والترمذي عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» قال الإمام الرازي: ومنشأ إصابة العين توهم النفس الخبيثة هلاك من تصيبه. وقد تقدم معنى ذلك في رواية أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مع انضمام حضور الشيطان، وهذا الاحتياط من باب الأخذ بالأسباب المأمور بها، لأنها من القدر، لا من من باب التحرز من القدر، كما روى مسلم وأحمد وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» معناه: والله أعلم: افعل فعل الأقوياء، ولا تفعل فعل العجزة، وذلك بأن تنعم النظر، تمعن في التأمل وتتأنى، حتى تعلم المصادر والموارد، فلا تدع شيئاً يحتمل أن ينفعك في الأمر الذي أنت مقبل عليه ولا يضرك إلا فعلته، ولا تدع أمراً يمكن أن يضرك إلا تركته واحترزت منه جهدك، فإنك إذا فعلت ذلك وأتى أمر من عند الله بخلاف مرادك كنت جديراً بأن لا تقول في نفسك: لو أني فعلت كذا، فإنك لم تترك شيئاً، وأما إذا فعلت فعل العجزة، وتركت الجزم فما أوشك أن تؤتى من قبل ترك الأسباب، فما أقربك إلى أن تقول ما يفتح عمل الشيطان من لو.
ولما خاف أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أن الحذر يغني من القدر، نفى ذلك مبيناً أنه لم يقصد غير تعاطي الأسباب على ما أمر الله وأن الأمر بعد ذلك إليه: إن شاء سبب عن الأسباب مسبباتها، وإن شاء أبطل تلك الأسباب وأقام أسباباً تضادها ويتأثر عنها المحذور، فقال: {وما أغني} أي أجزي وأسد وأنوب {عنكم من الله} أي بعض أمر الملك الأعظم، وعمم النفي فقال: {من شيء} أي إن أراد بكم، سواء كنتم مفترقين أو مجتمعين، وهذا حكم التقدير، ثم علل ذلك بقوله: {إن} أي ما {الحكم} وهو فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة {إلا الله} أي الذي له الأمر كله، لا يقدر أحد سواه على التفصي عن شيء من مراده والفرار من شيء من قدره، ولهذا المعنى- وهو أنه لا ينفع أصلاً سبب إلا بالله- أنزل الله التسمية مقرونة بهاء السبب أول كتابه، وأمر بها أول كل شيء؛ وروى أبو نعيم في الحلية في ترجمة إمامنا الشافعي بسنده إليه ثم إلى علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس يوماً فقال في خطبته: وأعجب ما في الإنسان قلبه، ولو مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع. وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر. وكل إفراط له مفسد. قال: فقام إليه رجل ممن كان شهد معه الجمل، فقال: يا أمير المؤمنين؟ أخبرنا عن القدر، فقال: بحر عميق فلا تلجه، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر، فقال بيت مظلم فلا تدخله، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر، فقال: سر الله فلا تتكلفه، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر، فقال: أما إذا أبيت فإنه أمر بين أمرين، لا جبر ولا تفويض، فقال: يا أمير المؤمنين! إن فلاناً يقول بالاستطاعة وهو حاضرك، فقال: عليّ به! فأقاموه، فلما رآه سل من سيفه قدر أربع أصابع فقال: الاستطاعة تملكها مع الله أو من دون الله؟ وإياك أن تقول أحدهما فترتد فأضرب عنقك! فقال: فما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: قل: أملكها بالله الذي إن شاء ملكنيها.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الحج عند {إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: 18] ما يتصل بهذا.
ولما قصر الأمر كله عليه سبحانه، وجب رد كل أمر إليه، وقصر النظر عليه، فقال منبهاً على ذلك: {عليه} أي على الله وحده الذي ليس الحكم إلا له {توكلت} أي جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعله {وعليه} أي وحده {فليتوكل المتوكلون} أي الثابتون في باب التوكل، فإن ذلك من أعظم الواجبات، من فعله فاز، ومن أغفله خاب، ثم إنه سبحانه صدق يعقوب فيما قال، مؤكداً لما أشار إلى اعتقاده، فقال: {ولما} وعطفه بالواو يدل على أنهم ما أسرعوا الكرة في هذه المرة خوفاً من أن يقول لهم: لم يفرغ ما عندكم حتى تضطروا إلى الاستبدال به، والزمان زمان رفق، لا زمان تبسط {دخلوا} أي أخوة يوسف عليه الصلاة والسلام عند وصولهم إلى مصر {من حيث أمرهم} أي به {أبوهم} من أبواب متفرقة، قالوا: وكان لمصر أربعة أبواب {ما كان} ذلك الدخول {يغني} أي يدفع ويجزي {عنهم من الله} أي الملك الأعلى الذي لاراد لأمره، وأعرق في النفي فقال: {من شيء} كما تقدم من قول يعقوب عليه الصلاة والسلام {إلا حاجة} أي شيئاً غير أتم حاجة {في نفس يعقوب} وهو الدخول على ما أمر به شفقة عليهم {قضاها} يعقوب، وأبرزها من نفسه إلى أولاده، فعملوا فيها بمراده فأغنى عنهم ذلك الإخلاص من عقوق أبيهم فقط، فإنهم ابتلوا في هذه السفرة بأمر عظيم لم يجدوا منه خلاصاً، وهو نسبهم إلى السرقة، وأسر أخيهم منهم، قال أبو حيان: وفيه حجة لمن زعم أن لما حرف وجوب لوجوب، لا ظرف زمان بمعنى حين، إذا لو كان ظرف زمان ما جاز أن يكون معمولاً لما بعد ما النافية انتهى.
ولما كان ذلك ربما أوهم أنه لا فائدة في الاحيتاط، أشار تعالى إلى رده بمدح يعقوب عليه الصلاة والسلام، حثاً على الاقتداء به في التسبب مع اعتقاده أن الأمر بيد الله فقال: {وإنه} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام مع أمره لبنيه بذلك {لذو علم} أي معرفة بالحكمين: حكم التكليف، وحكم التقدير، واطلاع على الكونين عظيم {لما} أي للذي {علمناه} إياه من أصول الدين وفروعه، ويجوز أن يكون المعنى: لذو علم لأجل تعليمنا أياه.
فاقتدوا به في الاحتياط في تعاطي الأسباب، مع اعتقاد أنه لا أثر لها إلا أن أمضاها الواحد القهار، فبهذا التقدير يتبين أن الاستثناء متصل، وفائدة إبرازه- في صورة الأستثناء عند من جعله منقطعاً- الإشارة إلى تعظيم يعقوب عليه الصلاة والسلام، وأنه جدير بأن يكون ما يأمر به مغنياً، لأنه من أمر الله، فلو كان كل شيء يغني من قدر الله لأغنى ما أشار به، وإنما فسرت {يغنى} ب يدفع لأن مادة غنى- بأي ترتيب كان- تدور على الإقامة، فيكون أغنى للسلب، وهو معنى للدفع، بيانه أن غنى بمعنى أقام، وعاش، ولقي، ومغنى الدار: موضع الحلول، ويلزم من الإقامة الكفاية والتمول، لأن الفقير منزعج مضطرب، والغني- كإلى: التزوج، وإذا فتح مد، والاسم الغنية- بالضم، وذلك لأن التزوج لازم الإقامة، والغانية: المرأة تُطلَب ولا تَطلُب، أو الغنية بحسنها عن الزينة، أو الشابة المتزوجة، أو الشابة العفيفة ذات زوج كانت أم لا، ومثلها يلزم المنزل ويقصر في الخيام، وأغنى عنه غناء فلان: ناب عنه منابه وأجزأ مجزأه، وحقيقته جعل إقامة كذا متجاوزة عنه، فالمفعول محذوف، فإذا قال مثلاً: فلان أغنى عني في الحرب، كان المعنى: أغنى عني ضرب الأبطال أو شدة الحرب، أي أزال إقامة ذلك عني فجعله متجاوزاً، ولا شك أن معنى ذلك: دفعه عني، وكذا كل ما كان من ذلك، وما فيه غناء ذاك، أي إقامته والاضطلاع به، ويلزم أيضاً- من الإقامة التي هي المدار والكفاية التي هي سببها- الغناءُ- بالكسر والمد، وهو التطريب بالصوت، والغناء أيضاً: الرمل- لإقامته، وغنى بالمرأة: تغزل، أي نظم فيها الغزل، وغنى بزيد: مدحه أو هجاه- من لوازم الإقامة والكفاية، ومنه غنى الحمام: صوت؛ ونغى- كرمى: تكلم بكلام يفهم- لأن ذلك يسكن الخاطر عن القلق، ومنه المناغاة- وهي تكليم الصبي بما يهوى، ونغيت إليه نغية، أي ألقيت إليه كلمة، والنغية- كالنغمة: أول الخبر قبل أن تستثبته، من تسمية الجزء باسم الكل، وناغاه: داناه، ومنه الموج يناغي السماء- إذا ارتفع، وناغاه: باراه أي عارضه، والمرأة: غازلها، أي حادثها- كل ذلك من لوازم الإقامة؛ والغين: حرف هجاء مجهور مستعل- كأنها لقوتها مقيمة في مخرجها غير متزعزعة عنه كالراء والحروف الهوائية وغيرها، والغين: العطش- لأنه الأصل لاقتضاء الحرارة له والريّ حادث، والغين: الغيم- لإقامته في الهواء، والغينة: أرض- لأنها موضع الإقامة، والأشجار الملتفة بلا ماء، هي أيضاً موضع لذلك، لأنها ظليلة ولا ماء بأرضها يمنع من الانتفاع بشيء من ظلها، والغيناء: الخضراء من الشجر، وبئر، وبالقصر: قنة ثبير من الأثبرة السبعة- لأن ذلك كله موضع للإقامة، ولعل قنة هذا الجبل كثيرة الشجر فترجع إلى الشجرة، والأغين: الطويل- إما تشبيه بقنة الجبل، أو بالشجرة، والغانة: حلقة رأس الوتر في القوس، وغين على قلبه: غطى عليه أي أقام عليه ساتراً له فصار كالسماء بالنسبة إلى الغيم، ومنه غين عليه- إذا تغشته الشهوة وألبس أو غشي عليه، أو أحاط به الرين وهو الطبع والدنس، والغينة- بالكسر: الصديد وما سل من الميت- كأنه من سلب الإقامة، وكذا الغين بالكسر- لموضع كثير الحمى، وغانت نفسي تغين: غثت، والإبل: غامت، أي حصل لها داء كالقلاب غير أنه لا يقتل- انتهى.
ولما كان قد يظن أن كل أحد يكون كذلك، أي يعلم ما علمه، نفى ذلك سبحانه بقوله: {ولكن أكثر الناس} أي لأجل ما لهم من الاضطراب {لا يعلمون} أي ليسوا بذوي علم لما علمناهم لإعراضهم عنه واستفرغ قواهم في الاهتمام بما وقع التكفل لهم به من أحوال الدنيا، ومغالبة فطرهم القويمة السليمة بردها إلى ما تدعو إليه الحظوظ والشهوات حتى لا يكون فيها طب مخلوق.


ولما أخبر تعالى عن دخولهم إلى البلد، أخبر عن دخولهم لحاجتهم إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فقاتل: {ولما دخلوا} أي بنوه عليه الصلاة والسلام {على يوسف} في هذه القدمة الثانية {آوى إليه أخاه} شقيقه بنيامين بعد أن قالوا له: هذا أخونا الذي أمرتنا به قد أحضرناه، فقال: أصبتم، وستجدون ذلك عندي؛ والإيواء: ضم النفس بالتصيير إلى موضع الراحة، وسبب إيوائه إليه أنه أمر كل اثنين منهم أن يأكلوا على حدة، فبقي بنيامين بلا ثان، فقال: هذا يأكل معي، ثم قال ليا: وكل اثنين منكم في بيت من خمسة أبيات أفردها لهم، وهذا الوحيد يكون معي في بيتي، وهذا التفريق موافق لما أمرهم به أبوهم في تفريق الدخول، فكأنه قيل: ماذا قال له، هل أعلمه بنفسه أو كتم ذلك عنه كما فعل بسائر إخوته؟ فقيل: بل {قال} معلماً له، لأنه لا سبب يقتضي الكتم عنه- كما سيأتي بيانه، مؤكداً لما للأخ من إنكاره لطول غيبته وتغير أحواله وقطع الرجاء منه: {إني أنا أخوك} يوسف: ثم سبب عن ذلك قوله: {فلا تبتئس} أي تجتلب البؤس. وهو الكراهة والحزن {بما كانوا} أي سائر الإخوة، كوناً هم راسخون فيه {يعملون} مما يسوءنا وإن زعموا أنهم بنوا ذلك العمل على علم، وقد جمعنا له خير ما يكون عليه الاجتماع، ولا تعلمهم بشيء من ذلك، ثم إنه ملأ لهم أوعيتهم كما أرادوا. وكأنه في المرة الأولى أيضاً في تجهيزهم ليتعرف أخبارهم في طول المدة من حيث لا يشعرون، ولذلك لم يعطف بالفاء، وأسرع في تجهيزهم في هذه المرة قصداً إلى انفراده بأخيه من غير رقيب بالحيلة التي دبرها. فلذلك أتت الفاء في قوله: {فلما جهزهم} أي أعجل جهاز وأحسنه {بجهازهم} ويؤيده {فلما جاء أمرنا} [هود: 66 و82] في قصتي صالح ولوط عليهما الصلاة والسلام- كما مضى في سورة هود عليه الصلاة والسلام {جعل} أي بنفسه أو بمن أمره {السقاية} التي له. وهي إناء يسقي به {في رحل أخيه} شقيقه، ليحتال بذلك على إبقائه عنده مع علمه بأن البصير لا يقضي بسرقته بذلك، مع احتمال أن يكون الصواع دس في رحله بغير علمه كما فعل ببضاعتهم في المرة الأولى، وأما غير البصير فضرر ثبوت ذلك في ذهنه مفتقر لأنه يسير بالنسبة إلى ما يترتب عليه من النفع من ألف إخوته بيوسف عليه الصلاة والسلام وزوال وحشتهم منه بإقامته عنده- كما سيأتي مع مزيد بيان- هذا مع تحقق البراءة عن قرب، فهو من باب ارتكاب أخف الضررين، ثم أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أرسل إليهم فحبسوا {ثم} أي بعد انطلاقهم وإمعانهم في السير {أذن} أي أعلم فيهم بالنداء {مؤذن} قائلاً برفيع صوته وإن كانوا في غاية القرب منه- بما يدل عليه إسقاط الأداة: {أيتها العير} أي أهلها، وأكد لما لهم من الإنكار {إنكم لسارقون} أي ثابت لكم ذلك لا محالة حقيقة بما فعلتم في حق يوسف عليه الصلاة والسلام، أو مجازاً بأنكم فاعلون فعل السارق- كما سيأتي بيانه آنفاً، مع أن هذا النداء ليس من قول يوسف عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أن لا يكون بأمره حتى يحتاج إلى تصحيحه، بل يكون قائله فهم ذلك من قوله عليه السلام: صواعي مع الركب، أو كأنهم أخذوا صواعي فاذهب فآتني به أو بهم- ونحو ذلك مما هو حق في نفسه؛ والعير: القافلة التي فيها الأحمال، والأصل فيها الحمير، ثم كثر حتى أطلق على كل قافلة تشبيهاً بها، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه التلطف في بلوغ المراد من إيقاع الأسباب التي تؤدي إليه وتبعث عليه بظاهر جميل وباطن حق مما يخفى على كثير من الناس موقعه، ويشكل عليه وجهه، لأنه أنفذ له وأنجح للمطلوب منه، فكأنه قيل: إن هذه لتهمة عظيمة، فما قالوا في جوابها؟ فقيل: {قالوا} في جواب الذين لحقوهم {و} الحال أن آل إسرائيل {أقبلوا} ودل- على أن الذين لحقوهم كانوا جماعة المؤذن أحدهم، كما كما هو شأن ذوي الرئاسة إذا أرسلوا في مهم- بالجمع في قوله: {عليهم} أي على جماعة الملك: المنادي وغيره {ماذا تفقدون} مما يمكننا أخذه {قالوا نفقد} وكأن السقاية كان لها اسمان، فعبروا هنا بقولهم: {صواع الملك} والصواع: الجام يشرب فيه {ولمن جاء به} أي أظهره ورده من غير تفتيش ولا عناء {حمل بعير} وهو بالكسر: قدر من المتاع مهيأ لأن يحمل على الظهر، وأما الحمل في البطن فبالفتح {وأنا به زعيم} أي ضامن وكفيل أوديه إليه، وإفراد الضمير تارة وجمعه أخرى دليل على أن القاتل واحد، وأنه نسب إلى الكل لرضاهم به، وفي الآية البيان عما يوجبه حال بهت الإنسان للتثبت في الأمر وترك الإسراع إلى ما لا يجوز من القول، فكأنه قيل: فما قال إخوة يوسف؟ قيل: {قالوا} قول البريء {تالله} أي الملك اوعظم فأقسموا قسماً مقروناً بالتاء، لأنها يكون فيها التعجب غالباً، قال الرماني: لأنها لما كانت نادرة في أدوات القسم جعلت للنادر من المعاني، والنادر من المعاني يتعجب منه، وقال: إنها بدل من الواو، والواو بدل من الباء، فهي بدل من بدل، فلذلك ضعفت عن التصريف في سائر الأسماء، ثم أكدوا براءتهم بقولهم: {لقد علمتم} أي بما جربتم من أمانتنا قبل هذا في كرتي مجيئنا {ما جئنا} وأكدوا النفي باللام فقالوا: {لنفسد} أي نوقع الفساد {في الأرض و} لقد علمتم {ما كنا} أي بوجه من الوجوه {سارقين} أي موصوفين بهذا الوصف قط، بما رأيتم من أحوالنا: من ردنا بضاعتنا التي وجدناها في رحالنا وغير ذلك مما عاينتم من شرف فعالنا مع علمنا بأنها خَلق لنا لا تصنّع يظهر لبعض الأذكياء بأدنى تأمل، فكأنه قيل: فما قال الذين من جهة العزيز؟ قيل: {قالوا} قول واثق بأنه في رحالهم: {فما جزاؤه} أي الصواع {إن كنتم كاذبين} في تبرئكم من السرقة؛ والجزاء: مقابلة العمل بما يستحق عليه من خير أو شر {قالوا} وثوقاً منهم بالبراءة وإخباراً بالحكم عندهم {جزاؤه} أي الصواع {من}.
ولما كان العبرة بنفس الوجدان، بنوا للمفعول قولهم: {وجد في رحله} ولتحققهم البراءة علقوا الحكم على مجرد الوجدان لا السرقة؛ ثم أكدوا ذلك بقولهم: {فهو جزاءه} أي ليس غير، فكأنه قيل: هل هذا أمر أحدثتموه الآن أو هو مشروع لكم؟ فقالوا: {كذلك} أي بل هو سنة لنا، مثل ذلك الجزاء الشديد {نجزي الظالمين} أي بالظلم دائماً، نرقّه في سرقته؛ فحينئذ فتش أوعيتهم {فبدأ} أي فتسبب عن ذلك أنه بدأ المؤذن أو غيره ممن أمر بذلك {بأوعيتهم}.
ولما لم يكن- بين فتح أوعيتهم وفتح وعاء أخيه- فاصل يعد فاصلاً، فكانت بداءته بأوعيتهم مستغرقة لما بينهما من الزمان، لم يأت بجار، فقال {قبل وعاء أخيه} أي أخي يوسف عليه الصلاة والسلام شقيقه، إبعاداً عن التهمة {ثم} أي بعد تفتيش أوعيتهم والتأني في ذلك {استخرجها} أي أوجد إخراج السقاية التي تقدم أنه جعلها في وعاء أخيه {من وعاء أخيه}.
ولما كان هذا كيداً عظيماً في أخذ أخيه بحكمهم، مع ما توثق منهم أبوهم، عظمه تعالى بالإشارة إليه بأداة البعد والإسناد إليه قال: {كذلك} أي مثل هذا الكيد العظيم {كدنا ليوسف} خاصة بأن علمناه إياه جزاء لهم على كيدهم بيوسف عليه الصلاة والسلام، ولذلك صنعنا جميع الصنائع التي أعلت يوسف عليه الصلاة والسلام وألجأت إخوته الذين كادوه بما ظنوا أنه أبطل أمره إلى المجيء إليه إلى أن كان آخرها حكمهم على أنفسهم بما حكموا، ثم علل ذلك بقوله: {ما كان} أو هو استئناف تفسير للكيد، وأكد النفي باللام فقال: {ليأخذ أخاه}.
ولما كان الأخذ على جهات مختلفة، قيده بقوله: {في دين الملك} يعني ملك مصر، على حالة من الحالات، لأن جزاء السارق عندهم غير هذا {إلا أن يشاء الله} أي الذي له الأمر كله، ذلك بسبب يقيمه كهذا السبب الذي هو حكم السارق وأهله على أنفسهم، فلا يكون حينئذ من الملك إلا تخليتهم وما حكموا به على نفوسهم.
ومادة سرق بتراكيبها الأربعة: سرق، وسقر، وقسر، وقرس- تدور على الغلبة المحرقة والموجعة، وتارة تكون بحر، وتارة ببرد، وتارة بغير ذلك، وتلازمها القوة والضعف والكثرة والقلة والمخادعة، فيأتي الخفاء والليل، فمن مطلق الغلبة: القسر، وهو الغلبة والقهر، وقال ابن دريد: القسر: الأخذ بالغلبة والاضطهاد، والقسورة: الأسد، والعزيز كالقسور، والرماة من الصيادين، واحده قسور، ونبات سهلي- كأنه يكثر فيه الصيد، فتنتابه القساورة، وقسور النبت: كثر، وركز الناس، أي صوتهم الخفي وحسهم- لأن الصيادين يتخافتون؛ والسقر لغة في الصقر- لطير يصيد؛ وقسر: جبل السراة- كأنه موضع الصيد والقسر والغلبة، والقيسري: الكثير- لأنه ملزوم للغلبة، وضرب من الجعلان- كأنه سمي لمطلق الكثرة ولأذاه بما يعانيه من النجاسات، والقيسري- أيضاً من الإبل: العظيم أو الصلب أو الضخم الشديد: وجمل قراسية- بالضم وتخفيف الياء: ضخم، والقرس- بالكسر: صغار البعوض؛ والقسورة أيضاً من الغلمان: الشاب القوي، والرامي- لأنه أهل لأن يغلب، ولقسور أيضاً: الصياد مطلقاً؛ ويلزمه المخادعة والاستخفاء، ومنه القسورة: نصف الليل أو أوله أو معظمه- لأنه محل الاستخفاء والمقاهرة؛ ومنه السرق، وهو الأخذ في خفية، وعبارة القزاز: في ختل وغفلة، وسرق- كفرح: خفي، والسوارق: الزوائد في فراش القفل- لغرابتها وخفاء أمرها، أو لسلبها السرقة بمنعها السارق من فتح القفل، والمسترق: المستمع مختفياً، وانسرق عنهم: خنس ليذهب، ويلزم المخادعة والاختفاء نوع ضعف، ومنه: سرقت مفاصله- كفرح: ضعفت، والمسترق: الناقص الضعيف الخلق؛ وانسرق: فتر وضعف- إما منه وإما من السلب، لأن من فتر أو ضعف يكف عن السرقة والأذى؛ وقسور الرجل: أسن، وكان منه القارس والقريس أي القديم، ومسترق العنق: قصيرها- كأنه سرق منها شيء، وهو يسارق النظر إليه، أي يطلب غفلته لينظر إليه، وتسرق: سرق شيئاً فشيئاً، وسُرَّق- كسكر- كان اسمه الحباب فابتاع من بدوي راحلتين، ثم أجلسه على باب دار ليخرج إليه بثمنهما فخرج من الباب الآخر فهرب بهما، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سرقاً، وكان لا يحب أن يسمى بغيره، والسرق- محركاً: أجود الحرير أو الحرير الأبيض، أو الحرير عامة، فارسي معرب أصله سره، قال القزاز: ومعناه: جيد، لأنه أهل لأن يقصد بالسرقة لخفة محمله وكثرة تمنه، والسرقين معرب سركين يمكن أن يكون من الضعف، ولعل المعرب يكون خارجاً عن أصل المادة، لأنه لا أصل له في العربية؛ ومن الأذى بالحر السفر: حر الشمس وأذاه، يقال: سقرته الشمس- بالسين والصاد- إذا آلمت دماغه، ومنه اشتقاق سقر، وهو اسم إحدى طبقات النار، والسقر: القيادة على الحرم، والسقر: ما يسيل من الرطب- من التسمية باسم السبب، لأن الحر سببه، والقوسرة: القوصرة- ويخففان- لأنه يوضع فيه التمر الذي قد يكون منه السقر، والساقر: الكافر واللعان لغير المستحقين- لكثرة الأذى، أو لاستحقاق الكون في سقر، والساقور: الحر والحديدة يكوى بها الحمار؛ ومن الأذى بالبرد: القرس- وهو البرد الشديد والبارد، والقرس- ويحرك: أبرد الصقيع وأكثفه، والقرس- بالتحريك: الجامد، وأقرس العود جمد ماءه، ومنه القريس- لسمك طبخ وترك حتى جمد، وقرس الماء: جمد، والبرد: اشتد كقرس كفرح، وآل قرايس ويقال: نبات قراس- كسحاب: أجبل باردة أو هضاب بناحية السراة، وقرسنا الماء: بردناه.
إذا تقرر ذلك فتصحيح قول المؤذن {إنكم لسارقون} إن نظر إلى الغلبة في خفاء فلا شك أنهم متصفون بذلك لأخذهم يوسف من أبيه عليهما السلام على هذه الحالة، وإن نظر إلى مطلق الأخذ في خفاء فيكون إطلاق ذلك عليهم مجازاً، لأن معهم- في حال ندائه لهم وهم سائرون- شيئاً ليس هو لهم هم ذاهبون به في خفاء، أي أنتم في هذه الحالة فاعلون فعل السارق، ويقوي إرادة الأول قوله تعالى: {لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} وقوله تعالى: {من وجدنا متاعنا عنده} كما سيأتي.
ولما كان يوسف عليه الصلاة والسلام إنما تمكن من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته، بعد ما كان فيه عندهم من الصغار، كان ذلك محل عجب، فقال تعالى- التفاتاً إلى مقام التكلم تقوية للكلام بمقام الغيبة والتكلم، وزاده إشعاراً بعظمة، هذا الفعل بصوغه في مظهر العظمة منبهاً لمن قد يغفل: {نرفع} أي لنا من العظمة، وكان الأصل: درجاته، ولكنه عمم لأنه أدل على العظمة، فكان أليق بمظهرها، فقال منبهاً على أنه كان حصل ليوسف عليه الصلاة والسلام من الهضم ما ظن كما ظن أنه لا يرتفع بعده: {درجات من نشاء} أي بالعلم.
ولما كان سبب الرفعة هو الأعلمية بالأسباب، وذلك أن الخلق لو اجتهدوا في خفض أحد فنصبوا له كل سبب علموه وقدروا عليه، وأراد الله ضد ذلك، لقيّض بعلمه سبباً واحداً إن شاء فأبطل جميع تلك الأسباب وقضى برفعته، نبه تعالى على ذلك بقوله: {وفوق كل ذي علم} أي من الخلق {عليم} عظيم العلم، لا تكتنه عظمة علمه العقول، ولا تتخيلها الفهوم، فهو يسبب من الأسباب ما تطيح له أسباب العلماء وتحير له ألباب العقلاء البصراء، وهو الله تعالى- كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وسعيد بن جبير، فالتنوين للتعظيم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10